بقلم: محمد هاشم الصالحي
أمه تعمل ليل نهار لتؤمن له ولإخوته الصغار زاد يومهم. هي جاهدة في توفير سبل الحياة الكريمة لهم وتتحدى المشقة. هو صغير وفي ربيعه الخامس لم تقوَ عضلاته بعد ولم يبلغ مبلغاً يمكنه من العمل لمساندة أمه. يعاين أمه من بعيد وهي تصب عرق الجبين لهم دون رواده وتحرم نفسها حتى من النوم وليس في حياتهم مكان للنكتة والهزل. أمه الآن بمثابة الأب والأم في آن واحد وهي تسعى جاهدة لسد الفراغ الذي تركه والدهم بعد رحيله إلى عالم البرزخ قبل عام. أنفقوا ما بجعبتهم من المال لعلاجه طيلة ثلاثة أعوام من المرض وقد ذهب سعيهم أدراج الرياح بعد أن مات وتركهم في غياهب جب الحياة يقارعون نائبات الزمن. غرفة صغيرة يركنون إليها وفي رأسهم سحائب الذكريات. جدران متهالكة وسقف يخر الماء عليهم وكنبة ذات مسند واحد وهي أجمل ما في البيت. صورة أبيهم في زاوية بارزة يتبركون بها ويتحدثون إليها فراداً يفرغون ما في جعبتهم من هموم. ليس لديهم شيء من مقاييس هذا الزمن.
ما إن اقترب العيد حتى أحس الجميع بلهفة الحنين إلى الأب. هو صغير وعمره غير كافٍ ليتذكر أيام أبيه. كل ما في عقله من أبيه هو الشكولاتة التي كان يجلبها له بين الحين والآخر وكذلك دفء الحنين الذي كان يحظى به وهو ينام ملقياً بجسده في أحضانه واضعاً رأسه بين ذراعيه. صورة أبيه تتجلى أمامه حين يشاهد أصدقاءه الآخرين يمشون في الزقاق مع أبيهم يحسون بالأمان والطمأنينة. عيونه تتطلع وقلبه يرهف وسبيل حاله يقول: ليت لي أباً يمسك بيدي ونمشي في الأسواق.
العيد على الأبواب وصغار الحي يتدفقون إلى الأسواق لشراء حاجات العيد. بائع الملابس يشهد إقبالاً بغير العادة. حيث الآباء والأمهات يقتنون أجمل الثياب لأبنائهم الصغار. هذا يلبس الأصفر وذاك يرتدي الأحمر والأزرق وذاك لا يعجبه ما لديه ليضعه في الرف ويقتني ما يعجبه. كل هذا وهو ينظر إليهم وجوفه ممتلئ بالحسرات والآهات. يتمنى أن يلبس شيئاً يظهره في العيد جميلاً فتاناً أنيقاً يناسب العيد وفرحته ويكون بمستوى أقرانه في الحي. يشاهد الجميع من بعيد ولا أحد يشاهده ولا يحس به أصلاً.
فرغ المكان شيئاً فاقترب من صاحب المحل بملابسه الرثة المشققة والتي أكل الدهر عليها وشرب. وكيف لا وهذه الملابس قد لبسها من قبل أخوه الأكبر منه سناً حتى تركت له كما هي.
وقف أمام صاحب المحل وبصوت خفيض يقول له:
– أنا أيضاً أحب الملابس الجديدة في العيد.
لم يتوانَ صاحب المحل من الإجابة حتى قال:
– لمَ لا تشتري؟
– ليس لدي المال.
– وكيف ستشتري دون ذلك.
– أنا لا أملك المال.. لكنهم يعطونني العيدية أيام العيد وسيكون لدي مال.
– إذن إذهب وتعال حين يكون لك مال.
صمت الصغير ولمعة الأضواء المسلطة على الملابس تعكس على عيونه الصغيرة. وإن سكت لكن في عيونه آلاف الكلمات والكثير من الكلام الذي لا يتدفق إلى لسانه. ابتعد من الرجل صاحب المحل رويداً رويداً بخطى ثقيلة وهو يلتفت إلى الوراء بين الحين والآخر يطالع الملابس كما لو كان يقتني سروالاً أو سترة للعيد وخيوطاً دقيقة سريعة من الأوهام تنسج في مخيلته.
رجع إلى البيت وليس في جيده غير الأسى وفي قلبه الصغير غضة وحرقة ليقبع بالقرب من أمه المتعبة هي الأخرى من عمل يوم شاق. يجلسون على مائدتهم المستديرة داكنة اللون ولا أدري من أي خشب سطحها عليها خبز يابس وشراب من ماء دافئ. لم تتعرف هذه المائدة بعد بالموز والفراولة والحليب الساخن على الريق عند الصباح. بؤس المكان وضنكه واستهزاء القدر وسخريته ودعارة الأيام التي فرقت بينهم وبين كل ما يجمعهم بالفرح وباعد بينهم وبين معالم الابتهاج بالعيد. غبطتهم الوحيدة منحصرة في إيجاد لقمة يسدون بها رمقهم وينامون بعدها ليلاً طويلاً دامس الظلام دون الإحساس بالجوع.
جاء العيد وقد تفضل عليهم هذا وذاك بفتاة الموائد وجاد بعضهم بعيديات لا تتجاوز دراهم معدودةً. يذخر ما يمكن لينطلق إلى محل الملابس ويقتني ما يستطيع ويلبس شيئاً يحسسه بالعيد ويتلذذ بطعم الفرح. اليوم الأول واليوم الثاني والثالث ثم الرابع من العيد وهو على ذمة الفرح وعيناه تترقبان من يطرق الباب، عسى أن يكون عطوفاً بهم بالعيدية ويقتني الملابس حتى لو كان بعد أيام العيد.
جمع ما استطاع من العيدية، لكن محل الألبسة مغلق للاحتفال بالعيد. كانت أيام الانتظار صعبة في أن يفتح المحل. سوف يتظاهر أمام زملائه بملابسه الجديدة كما لو كان قد اشتراها قبل العيد ولبسها في العيد. خمسة أيام من الانتظار حتى فتح المحل ليهرع إليه ويخاطب صاحب المحل:
– ها قد جئتك بالمال..
– إذن اختر ما يناسبك.
أحلامه كانت منحصرة في سروال أسود وقميص أزرق كان قد شاهدها في الرفوف قبل العيد. لم يجد ذلك في مكانه حتى رجع إلى صاحب المحل من جديد ليسأله:
– كان هنا سروال أسود وقميص أزرق؟
– وهل تعتقد أنها تنتظرك لما بعد العيد؟
الموديلات الحديثة كلها كانت قد بيعت قبل العيد وما تبقى ليس سوى الفتافيت غير الجميلة. لا ضير، فكل شيء أفضل مما يرتديه الآن وإن فقدت ثيابه ألوانها بمساحيق الغسيل التي غسلت بها طيلة الأعوام المنصرمة حتى غدت خارج الخدمة.
اختارَ سروالاً ومن ثم وجد قميصاً يناسب ذلك. ارتدى الملابس كما شاهد أولاد الزواد يفعلون قبل العيد. وقف أمام المرآة يطالع نفسه ويرتب القميص على السروال. انتهى من ذلك وأتى بهم إلى صاحب المحل ليضعه له في كيس. عند الحساب تبين أن ما في جيبه لا يكفي لذلك. صاحب المحل:
– نقودك لا تكفي يا صغير.
وقعت الجملة في نفسه كالصاعقة على سفوح الجبال لتحرق الأخضر واليابس فيه. شح وجهه وتبددت الابتسامة من خديه:
– لا تكفي؟
– نعم لا تكفي..
– إذن ما الحل؟
ذهب صاحب المحل يقترح عليه:
– خذ السروال واترك القميص.
– لكني لا أملك ما ألبسه مع السروال.
صاحب المحل منزعج من كثرة المناقشة والسؤال ذهب يرشده:
– خذ السروال.. وفي العيد المقبل اشترِ القميص.
له أن يختار في أن يشتري السروال دون القميص أو أن يعود إلى البيت بخفي حنين ليعيش الأسى من جديد وتتبدد كل أحلامه. وافق على ذلك:
– أعطني السروال يا عم.
أخذ السروال ليعود إلى البيت مغرماً بنصف فرح. يعد الأيام ويحسب الأسابيع لتمضي الشهور وتنقضي السنة ويحل العيد ثم يتمكن من شراء قميص يرتديه مع السروال الجديد. الانتظار كان أشد من النار والنفس متعطشة إلى الفرح وشيء من البهجة. صبر صبراً جميلاً حتى جاء العيد بعد عام ليجد نفسه قد كبر وأن السروال قد ضاق عليه.
وقف مبتسماً أمام المرآة الصغيرة بسرواله الضيق على بدنه في انقباض حاد بقي الصغير على أمل الفرح حتى يوم تنعدم فيه الفروق ويصير الناس كلهم إخوة سواسية. يقول في قرارة نفسه وقد اغتصبه الزمن وقست عليه الأيام العاهرات:
– قد نفرح في العيد القادم.
Be First to Comment