Press "Enter" to skip to content

رسالة إلى صديقي المغترب

المرسل: محمد هاشم الصالحي

أخي وصديقي الحبيب،

كيف حالك يا رفيق الدرب؟ أرجو أن تكون في أتم الصحة والعافية. مرت سنين طويلة، قاحلة بدونك، لكن صورتك لم تفارق مخيلتي لحظة واحدة. مهما طال الزمن وتباعدت المسافات، تظل أيامنا الخوالي محفورة في أعماق روحي، أستعيد تفاصيلها كل يوم وكأننا عشناها بالأمس القريب.

أعلم تماماً أنك تشاطرني هذا الشعور، فأنا أدرك جيداً أنني ومدينتك كركوك الحبيبة، التي طالما عشقتها وما زلت، حاضرون في فكرك رغم غيابك الطويل عنها.

أعلم أن قلبك ما زال يخفق حباً لكركوك وأنك تتابع أخبارها وأخبار أهلك وأصدقائك من بعيد. أدرك تماماً أنك تشاركنا الألم الذي نعيشه هنا وأن دموعك تنهمر بحرقة على شهدائنا الذين سقطوا في غياهب الحروب وأن روحك تتألم لألم الجرحى. أعي جيداً أنك تكابد مرارة دموع اليتامى والأرامل والثكالى وأنك تفعل كل ما بوسعك لإنقاذنا من هذا الضياع.

لقد لمحَتْ عيناي صورتك يا أخي، في تلك الأمسية الغنائية ببلاد الغربة. رأيتُكَ ومن حولك وقد اجتمعتم في ليلةٍ بدتْ بهيجةً، تراقصت فيها الألحان على أنغام الفرح. لكنّ قلبي، رغم المسافات، أحسّ بألمٍ خفيٍّ ينبعُ من أعماقكم. لم يكن غناؤكم ورقصكم مجرد طربٍ عابر؛ بل كانَ صرخةً، آهةً، لأجلِ المشردين والجياع في وطنٍ أبى أن ينصفَ أبناءه. شعرتُ حينها أن كلّ نغمةٍ كانتْ تحملُ في طياتها حنيناً وكلّ خطوةٍ على أنغام الموسيقى كانتْ رقصةَ وجعٍ على حالنا.

وفي تلك الليلة الأوروبية الحالمة، بينما كانت الكؤوس تُرفع، لم يكن احتساء الخمر إلا تعبيراً آخر عن حزنكم العميق على حالنا. أعلم يقيناً أنك لم تجاور الحسناوات رغبةً في اللهو أو سعياً وراء المتعة الزائفة. بل كنتَ تحاول جاهداً، أن تغادر بفكِرك وجعَ وطنك الذي يخيم فوق رأسك كغمامةٍ سوداء، تثقل الروح وتعتصر القلب. لقد كانت كلّ رشفةٍ محاولةً للهروب من مرارة الواقع وكلّ ابتسامةٍ كانتْ قناعاً يخفي ألفَ دمعةٍ على أرضٍ أرهقها الألم.

ورغم أن جسدك قد غادر إلى أوروبا، إلا أن روحك لم تفارقنا لحظة. تلك الصور التي تنشرها على صفحات التواصل الاجتماعي وأنت على ضفاف البحار الزرقاء وفي قلب الغابات الخضراء، كلها ليست لك وحدك، بل هي رسائل لنا بأنك تعيش من أجلنا. أكلك للأسماك واللحوم الطازجة ورحلاتك بين الدول الأوروبية، كلّها ليست لمتعة شخصية يتصورها البعض، بل هي تضحية وفداء، محاولة لتجديد طاقتك لتتمكن من مواصلة النضال من أجلنا. إنها صور تبعث فينا الأمل وتخبرنا بأنك وإن كنت بعيداً، إلا أنك لم تنسَ من خلفك وأن كل ما تفعله هو من أجلنا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

وفي مشهدٍ آخر، رأيتُك تقود سيارتك الفارهة في شوارع أوروبا، بينما كنتَ تستمع إلى أغاني بلدنا الفلكلورية. لم يكن ذلك مجرد اختيار عابر، بل كانَ دليلاً واضحاً على تواصلك العميق معنا وعلى تقاسمك لأحزاننا التي لا تغادر أرواحنا.

أعلمُ أن روحك تتألم لانقطاع التيار الكهربائي لدينا، في صيفٍ تتجاوز فيه درجات الحرارة الخمسين درجة. يَقْهرُك مشهدُ الطوابير الممتدة أمام دوائر الجنسية والمعاملات المتلكئة التي تزيد من مرارة الانتظار ورواتب الرعاية الاجتماعية التي لا تسدّ رمقَ جوع. إنها تفاصيل صغيرة لكنها تعكس حجم المعاناة التي نعيشها وأعلمُ أنها تصل إليك وتترك بصماتها على قلبك.

يا صديقي، لا تحزن فالله معنا وإليه نفوّض أمرنا. عش أيامك براحة وطمأنينة ولا تدع الحزن يأخذك بسبَبِنا. إنك تستحق العيش الرغيد والرفاهية التي طالما حُرمت منها. دعنا نكتوي بنار واقعنا وحدنا هنا واذهب أنت ورفاقك إلى الحانات، عش حياتك كما يليق بك، ففرحك يسعدنا وإن بُعدت المسافات.

أرسِلْ أطفالك إلى أرقى المدارس ولا تُرهقْ فكرك بأولاد “الخايبة” الذين لا يجدون مقعداً يجلسون عليه في مدارسهم المتهالكة. لا عليك بهم جميعاً كن لنفسك، بعد أن اتخذتَ قرار ترك الجمل بما حمل وحملتَ على عاتقك همّ غربتك. استمتع بحياتك.

Be First to Comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *