بقلم : محمد هاشم الصالحي
في زمن الصبا وبين جدران بيت جدّي في كُفري، كانت لي حكايات. ورغم نعومة أظفاري وبراءة أيامي وصغر سني وصفاء ذاكرتي ورغم تعاقب السنين، فإنّ صدى تلك الحكايات لا يزال يتردد في أعماقي، عصياً على النسيان، مانعاً قلبي من أن يُسلّم نفسه للحياة الجديدة. وطأة تلك الذكريات الراسخة لا تزال تُثقل كاهلي وتُقاوم الرحيل بعنادٍ شديد.
الحقيقة أنا لا أدري إن كنت أنا من رسمَ على جدران الذاكرة صوراً وردية لأيام كفري، أم أن الزمان نفسه توقف هناك، ليمنحنا لحظاتٍ لا تُنسى؟! ما زلتُ أبحث عن إجابة، بين ثنايا الشوق والحنين. هل أنا من بالغ في حب تلك الأيام، أم أنها كانت فعلاً استثنائية؟ سؤالٌ يلازمني كلما اشتقتُ إليها وأنا أعيش بين الذئاب في يومي هذا.
كانَ الفجرُ في كفري يطلُّ باكراً، مُعلناً عن يوم جديد ينبضُ بالحياةِ منذُ ساعاته الأولى. تستيقظُ البلدةُ على سيمفونية طبيعية ساحرة، تُصدحُ بها أصواتُ الديكة التي توقظ النائمين مطعمة بزقزقة العصافيرِ الشَّجيَّةِ التي تحلق في سماء صافية، تُشبهُ في نقائها صفاءَ أرواحِ أهلِها.
في سكون الليل، تحت سماء الصيف المرصّعة بالنجوم وأنا أستسلم لنوم هانئ على سطح منزل جدي، تغمرني نسمات الهواء العليل. ثم كخيوط الفجر الذهبية التي تُبشّر بيوم جديد، كان صوت مذياع جدي السيد عباس، يُوقظني من أحلامي الوردية. كان جدي هو النجم الذي يُضيء سماء بيتنا، أول من يستيقظ ليُشعّ في أرجائه الحياة وكأنّه يُوقد شعلة الدفء والمحبة التي تُنير يومنا.
وما هي إلا لحظات حتى تتبعُه جدتي، كفراشة رشيقة تُحلّق نحو مملكتها الصغيرة، مطبخها المتواضع في المساحة، لكنه قصرٌ عامرٌ بأشهى المأكولات وأطيب النكهات. كانت يداها تُحوّلان المكونات البسيطة إلى روائع فنية تُبهج الحواس.
ثم يحين موعد اللقاء على مائدة الفطور، حيث يجتمع أبي وأمي، ليشتركا في وجبة الصباح، تلك اللحظة المقدسة التي تتجاوز كونها مجرد طعام، لتصبح طقساً يومياً يُجدّد روابط المحبة والوئام. كانت نكهة ذلك الفطور المُعدّ بحب وعناية، تفوق كل النكهات التي تذوقتها في حياتي، لأنها كانت ممزوجة بدفء العائلة وصدق المشاعر.
مع إشراقة شمس الصباح حوالي الساعة السابعة، تبدأ الحياة تدبّ في أوصال المدينة. يخرج جدي، كشجرة شامخة تمدّ جذورها في أرض كفري، متّجهًا نحو مقهى محمد جايجي في قلب سوق كفري الشعبي. هناك، يلتقي بأبناء جلدته، رفاق الدرب وشركاء العمر، الذين تشاركوا معه حلو الحياة ومرّها. يجلسون معاً، يتبادلون أطراف الحديث وكأنهم ينسجون خيوط يوم جديد من حكايات المدينة وأخبارها. أحاديث بسيطة، كبساطة المدينة نفسها، لكنها تحمل في طياتها دفء المحبة وصدق الانتماء. لا تتجاوز هذه الأحاديث حدود مدينتهم الصغيرة، حوارات تعكس نبض قلوبهم المُفعمة بالحب والوفاء.
مع تقدّم الساعات، تبدأ حركة أخرى تنشط في الحي. تأتي نساء الجيرة، كأسراب من الفراشات الملونة، لزيارة جدتي في بيتها. في هذه الأثناء، غالباً ما كانت جدتي تُوقد تنورها الطيني وكأنه قلب البيت النابض، لتخبز لنا الخبز الطازج، الذي سيُزيّن مائدتنا في الظهيرة. يا له من مشهد دافئ! رائحة الخبز تُعبّق الأجواء وتُضفي على المكان سحراً خاصاً.
كانت البيوت صغيرة ومتداخلة وكأنها بُنيت لتُعبّر عن روح الجماعة والوحدة. كانت المحلة بأكملها بمثابة بيت واحد كبير وسكانها كأنهم أبناء لأب واحد وأم واحدة. يا له من مجتمع متماسك، تسوده المحبة والإخاء.
كنت أتنقل بين المقهى، حيث يجلس جدي محاطاً برفاق دربه وبين دفء البيت وحضن العائلة، كأنني أطير بين بهجة العيد وفرحته الغامرة. كان قلبي الصغير يمتلئ بالسعادة حتى يكاد ينفجر وكأنّ الفرحة أكبر من أن تحتويه. كان أخي الصغير المرحوم سنان يُشاركني هذه اللحظات الساحرة وكنا نطير معاً روحين مرحتين، كالنوارس التي تُحلّق فوق سماء المحيطات الشاسعة حريّين منطلقين لا يقيّدنا شيء.
كانت دراجاتنا الهوائية أكثر من مجرد وسيلة للتنقل، بل كانت بمثابة مركبات فضائية تأخذنا في رحلات خيالية إلى عوالم أخرى، حيث لا حدود للأحلام ولا قيود للخيال. كنا نستكشف بها شوارع الحي وأزقته وكأننا رواد فضاء يستكشفون كواكب جديدة.
يا لها من ذكريات دافئة تُعيدُنا إلى زمنٍ كانت فيه ساعة الظهيرة تحلّ مبكراً وكأنّ الشمس تُسرعُ في دورانها لتُضفي على المدينة سحراً خاصاً. ما إن تُعلنُ عقاربُ الساعة الحاديةَ عشرةَ، حتى تتهيأُ العائلاتُ ببهجةٍ وسرورٍ لتناولِ طعامِ الظهيرة، تلكَ الوجبةُ التي تجمعُ الأحبةَ على مائدةٍ واحدة، تُعانقُ فيها رائحةُ الطهي الشهيةُ أحاديثَهم وضحكاتِهم.
وبعد أن يَنعموا بلحظاتٍ من الراحةِ والنومِ الهانئ، تبدأُ ساعاتُ العصرِ الساحرةُ في الانتشار وكأنها تُوقظُ المدينةَ من حُلمٍ جميل. فتعودُ الحياةُ إلى نبضِها وتبدأُ فصولٌ جديدةٌ من اليوم تُكتَبُ بحروفٍ من نورٍ وبهجة.
في هذهِ الساعةِ الساحرة، يعودُ الشايُ ليتربّعَ على عرشِ المائدة، مُعلناً عن بدايةِ لَمّةٍ العصر الحلوةٍ لتجمعُ الأهلَ والأصدقاءَ من جديد. يتبادلون فيها أطرافَ الحديثِ من جديد وتتعالى ضحكاتُهم الصادقةُ لتملأَ الأرجاءَ دفئاً وحُباً.
ثمّ تبدأُ الزياراتُ المُبهجة، حيثُ يَنطلقُ الناسُ للقاءِ أحبّتِهم من الأصدقاءِ والأقاربِ والجيران، فتتجدّدُ الروابطُ الإنسانيةُ وتزدادُ متانةً. إنها ساعاتٌ تُعيدُ تعريفَ الصُحبةِ بمعناها الحقيقي وتُضفي عليها طعماً فريداً لا يُمكنُ نسيانه.
في تلك المدينة، لم تكن ساعةُ الظهيرة مُجردَ وقت لتناولِ الطعامِ والراحة، بل كانت بدايةً لفصلٍ جديدٍ من اليومِ مليءٍ بالحياةِ والدفءِ والمحبة، فصلٌ يُعيدُ إلى الأذهانِ قيمةَ اللحظاتِ البسيطةِ التي تُشكّلُ جوهرَ حياتِنا.
مع حلول المساء وانبلاجِ خيوطِ الظلامِ الرقيقةِ، تبدأُ نفحاتُ الهواءِ العليلةُ بالهبوبِ من أعالي سفوحِ جبلِ بابا شاسوار الشامخِ. نسائمُ تحملُ معها كمياتٍ وفيرةً من الأكسجينِ النقيِّ، لتملأَ الصدورَ انتعاشاً وحيويةً وكأنها تُعيدُ إليها نبضَ الحياةِ من جديد.
في هذا الوقتِ الساحرِ، تكتسي المدينةُ حُلّةً من السكونِ والهدوءِ وتتوهجُ أضواؤها الخافتةُ كنجومٍ صغيرةٍ تُزيّنُ السماءَ. أما دروبُها الضيقةُ، فتُصبحُ مناراتٍ من الحبِّ الذي يملأُ القلوبَ، فتضيءُ بنورِهِ أرجاءَ المكان.
في هذا المساءِ الهادئ، لا مكانَ للكُرهِ أو النفورِ بينَ الناسِ، بل يسودُ الوئامُ والمحبةُ والصفاءُ. الكلُّ يسيرُ في مسارِهِ بهدوء وثقة وكأنَّ المدينةَ تُشاركُهم سكينتَهم وطمأنينتَهم.
يا لهُ من منظرٍ بديعٍ، حيثُ تتناغمُ الطبيعةُ مع الإنسانِ في سمفونيةٍ رائعةٍ، تُعبّرُ عن جمالِ الحياةِ وبساطتِها. فنسائمُ الهواءِ العليلةُ تُنعشُ الأجسادَ وأضواءُ المدينةِ الخافتةُ تُنيرُ الدروبَ والحبُّ الذي يملأُ القلوبَ يُوحّدُ النفوسَ.
في هذا المساءِ الساحرِ، تُصبحُ المدينةُ ملاذاً آمناً للجميعِ، حيثُ يجدُ كل شخص فيه سلواهُ وراحتهُ وحيثُ تتجدّدُ فيهِ معاني الإنسانيةِ الحقيقيةِ.
في تلك الساعاتِ الهادئة، تُفرشُ الأسطحُ ببسطِها وكأنها تُحوّلُ المنازلَ إلى جنانٍ معلقةٍ في السماء. تُبسطُ الأفرشةُ عليها كالبساطِ الأحمدي أو كطائر عملاق يفتحُ جناحيه ليحملَ من يستلقي عليه في رحلة ساحرة إلى عالم الخيالِ والروعةِ. تُصبحُ الأسطحُ ملاذاً، حيثُ يَنعمُ المرءُ بلحظات من السكينةِ والهدوء تحتَ سماءٍ سوداء مرصّعةٍ بالنجومِ.
تُوضعُ الدللات الطينيةُ بعناية على جدرانِ الأسطحِ، لتُبرّدَ مائِها الزلالَ وكأنها تُخبّئُ سراً من أسرارِ الانتعاشِ والارتواءِ. فكل من يستيقظ ليلاً ليشربَ جرعةً من هذا الماء البارد، يَشعرُ وكأنَّ الحياةَ تَسري في عروقِهِ من جديد.
وهكذا، تُسدلُ الستارُ على الفصل الأخير من لوحة اليوم الواحد في كفري، تلكَ المدينةِ التي تنبضُ بالحياةِ والبساطةِ. لقد انتهى يوم حافل بالذكرياتِ واللحظاتِ الجميلةِ، ليتهيأَ الجميع لاستقبالِ يومٍ جديدٍ، يَحملُ في طياتِهِ حباً آخرَ ونشأةً أخرى وفرصةً جديدةً لكتابةِ فصولٍ جديدةٍ من قصةِ الحياةِ.
تلك اللحظاتُ الأخيرةُ من اليوم، تُشبهُ خاتمةً شعريةً تُتوّجُ يوماً كاملاً وتُمهّدُ لبدايةٍ جديدةٍ مليئةٍ بالأملِ والتفاؤلِ. إنها لحظاتٌ تُذكّرُنا بجمالِ الحياةِ في أبسطِ تفاصيلِها وبقيمةِ اللحظاتِ التي نعيشُها.
كل هذا أصبحَ شيئاً من الماضي الذي يرفضُ الرحيل وكأنهُ شبحٌ جميلٌ يُطاردُ الذاكرة أو لحنٌ عذبٌ يتردّدُ في أرجاءِ القلبِ.
تلكَ الليالي الهادئةُ تحتَ سماءِ كفري المرصّعةِ بالنجومِ وأحاديثُ السمرِ على الأسطحِ وبرودةُ الماءِ الزلالِ من الدللات الطينيةِ، كلُّها ذكرياتٌ نقشتْ في الوجدانِ وأصبحتْ جزءاً لا يتجزأُ من تاريخِ المدينةِ وناسِها.
قد تغيّرتِ الأيامُ وتبدّلتِ الظروفُ وعبقَ الماضي ما زالَ يفوحُ في الأرجاءِ، يُذكّرُ الجميعَ بتلكَ الأيامِ الخوالي وببساطةِ الحياةِ وجمالِها. حنينٌ دائمٌ إلى زمنٍ كان فيهِ الحبُّ والصفاءُ والبساطةُ هيَ السمةُ الغالبةُ.
Be First to Comment