Press "Enter" to skip to content

سياقة القدر

لبطش النظام وعنجهية سياسته الرعناء التي مورست بحقنا نحن أبناء الشعب العراقي عامة والتركماني خاصة، وفي تسعينات القرن الماضي اضطررت إلى العمل في السوق بعد أن رفضت الحكومة قبول تعييني بحسب شهادتي الجامعية لإنتمائي القومي. ساقتني الأقدار التي رسمها لي تلك القرارات الظالمة للنظام إلى السوق والدخول إلى مجتمع ما كنت قد الفته من قبلً. حيث المستويات الثقافية الضحلة للعاملين في السوق وأساليب تعاملهم، حتى أن لغة التخاطب بينهم التي تكاد أن لا تخلو من الهجو والمغالطة تجاه بعضهم البعض والتي كانت مختلفة تماماً عن لغة الحياة الجامعية التي جئت منها إلى هذا المجال.

مكتبي كان للخط والترجمة وكان وسط السوق ومن حولي الباعة المتجولين ومحلات البقالة وما الى ذلك. كان يتردد عليّ زملائي وأصدقائي من الدراسة الجامعية وكذلك الكتّاب والمثقفين. حتى أصبحنا جماعة لا بأس بها نجلس ونتحادث ونتبادل أطراف الحديث في المجالات الثقافية المختلفة. العاملين في هذا السوق جلهم من البسطاء واغلبهم لا يعرف القراءة والكتابة ولم يكن لهم حظ في التعرف على المدارس.

ذات مرة كان أحد الباعة يجلس في مكتبي ويستمع إلى ما نتحدث به وكان الموضوع عن الظلم وعن قهر المواطنين وغبنهم من قبل الدولة ورجال الأمن المتنفذين في السوق والذين كانوا يبتزون الناس للحصول على أموال وخاوات.

أحد الأصدقاء وهو يتحدث عن الظلم وانعكاساته وعن المردود السلبي له على الظالم اولاً وعلى المجتمع ثانياً. كان صديقي هذا قد أورد اية قرآنية بخصوص الظلم معززا حديثه بقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا” سورة النساء الآية 168.

وبعد ذلك أورد الأخر حديثاً نبوياً شريفاً أوضح فيه رأي الرسول صل الله عليه وسلم بخصوص الظلم والمظالم الواقعة على الشعب وقال ان الرسول صل الله عليه وسلم يقول: “اتقول الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة”.

الحديث كان محتدماً بين الحضور في هذا المجال والعامل البسيط الذي يجالسنا يصغي بكل هدوء دون تدخل. فالحديث يفوق مستواه، لكن يبدو أنه كان يريد المشاركة وإبداء رأيه في موضوع الظلم. فبعد أن إستشهد أحد الأصدقاء بأية قرآنية ومن ثم ذكر الأخر حديثاً للرسول صل الله عليه وسلم نطق هذا الشخص البسيط بمقولة أنسبها إلى أحد المطربين الشعبيين. وهو مطرب إشتهر بين الناس بغنائه الشعبي في مجالس الأفراح والمناسبات الشعبية وهو معروف بالثمالة. حيث قال هذا العامل البسيط بالحرف:

ولماذا تذهبون بعيداً ألم تسمعوا المطرب التركماني (هابة) وهو يقول “كن مظلوماً ولا تكن ظالماً”؟.

عندها لم نكن نعلم هل نضحك أم نبكي أم نلعن حظنا العاثر. فبعد أن سكت هذا واستمع إلينا نطق وليته لم ينطق. فأين هي أوجه المقارنة بين كلام الله وكلام رسوله وبين ما يقوله هذا المطرب الشعبي؟. وليته قد اكتفى بذلك بل أن قوله “ولماذا تذهبون بعيداً” كشف عن تصوره بأن هذا المطرب هو أقرب إلينا من الله ورسوله.

كان هذا في السوق وقبل سنين طوال، أمّا اليوم

فالعامة يعتبرون المطربين والمطربات اقرب اليهم من حبل الوريد. مجتمع يغلب فيه التفاهة على الاصالة والباطل يعلو على الحق. وما أشبه حديث السادة أصحاب السيادة من هذا الشخص الأمي. الناس تبحث عن شيء يؤمن لهم مستقبلهم ومستقبل عيالهم في ظل خراب طال كل شيء بعدها يطل عليك مسؤول يتحدث في موضوع ما أنزل الله به من سلطان. رواتب مهددة وتجارة ملغية ومصانع لا وجود لها وإستيراد كل شيء وعطالة حدث ولا حرج. كلام لا يمد بصلة إلى الحقيقة والواقع ولا ربط في كثير من الأحيان بين ما يقال في نشرات الأخبار وبين ما يعيشه الفرد العراقي. بل أن كلامهم ليس له صلة بالواقع. حيث تجد بعد كل هذه المعاناة أن الحديث يدور عن العلاقات التجارية والتبادل مع الدول المنتجة وما إلى ذلك. نحن لا نسير بخطط وضعتها الدولة بإعتماد حسابات دقيقة تخدم المواطنين واستناداً إلى المعطيات الخطيرة التي نواجهها كشعب حتى بلغنا موضعا تقتل الأم أطفالها رمياً بالنهر.

نحن نسير بتوفيق إلهي ورعاية سماوية لا غير. وحسبنا الله.

Be First to Comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *