Press "Enter" to skip to content

تعبان خالي

بقلم: محمد هاشم الصالحي

في عصر يوم عمل شاق وأنا أوشك أن أصل إلى البيت حاملاً بيدي ما قسمه الله لي هذا اليوم من قوت العيال وعلى أكتافي أعباء النهار.

جسدي مثقل بالحمولة التي أحملها وروحي متعبة للغاية من مشقة التعامل مع بني البشر. لا أقوى حتى على التفكير ولم أكن حالماً إلاّ بفراش يحتويني ألقي عليه جسدي المتعب هذا، ليستنزف مني تعب العمل. أصبح الكسب مخاضاً عسيراً والحصول على لقمة العيش أمراً أصعب من مقارعة الأسود وسط الغابة في زمن لا يرحم.

ما تبقى سوى أمتار على باب الدار حتى وجدت صغيراً يفترش الأرض في قارعة الطريق. يجلس جلسة القرفصاء ويتكئ بظهره على حائط رطب. يضع رأسه فوق ذراعيه أللتين اشتبكتا معاً فوق قدميه. بجانبه كيس أسود اللون لا يبين ما بداخله. المشهد كان غريباً بالنسبة لي حتى دنوت منه لأتحقق من أمره عسى أن أتمكن من إسعافه.

– ما بك يا صغير؟

رفع رأسه وبصرت عينيه المحمرتين. لم تكن الدموع تسيل من عيونه لكنها كانت محصورة بين جفونه تخفي بريق عينيه. لا بد أن هناك أمر ما قد أقعده هكذا وليس من ريب أن هذا الصغير يعاني من مشكلة ركنته هنا حتى ابتلت عيناه وإن لم يكن يجهش بالبكاء. كررت السؤال:

– هل لديك مشكلة.

أحياناً كثيرة تكون النظرات معبرة أكثر من ألف جملة وجملة. قد لا تفي العبارات حيناً كما تعبر به النظرات. فالكلمات لا تنقل حجم الكارثة أحياناً كثيرة. الصغير هذا كما لو كان يحمل هموم الدنيا فوق رأسه حتى ظننت أن في جعبته التي يركنها إلى الجنب كل المآسي والشجون. الهواجس تنط من عينيه ونظراته تحكي قصة حزن شديد.

لله درك يا صغير ألا أفهمتني ما بك؟ فقد فاقت الظنون عقلي ورحت لا أستوعب صعوبة المنظر. بنظراته المريبة وصمته الرهيب كدت أفقد رجاحة عقلي وبت لا أقوى على الكلام أنا أيضاً. تربعت بمقربة منه، داعبت شعر رأسه عسى أن أخفف عنه وأنتزع منه كلمة تطفئ وهج نيراني وتذهب عني حيرتي.

– ما بك؟ هل فقدت شيئاً؟

لا زال الصغير يصوب سهام نظراته في صميم فؤادي ويصيبني من الأعماق. لا همس يخرج منه وهو يشهق أنفاسه بعسر وكأنه يختنق. مددت يدي إلى الكيس الأسود بيمينه فتحته لأجد فيه علباً معدنية لمشروبات غازية. من الجلي أنه قد جمع كل هذه العلب المعدنية من نفايات البيوت التي في الأطراف. الدهشة من أمره جعلتني ملتصقاً بالمكان لا أقوى الرحيل. أعدت السؤال:

– ما بك؟ هل لي أن أساعدك؟

بعد برهة من الزمن ودقائق الصمت الرهيب تفوه الصغير:

– تعبان خالي.. والله تعبان..

كما لو كنت جالساً تحت بناية متهالكة آيلة للسقوط ومن ثم سقطت على رأسي. أو كزلزال شديد الوطأة اهتزت بي الأرض وربت. تحرك كل شيء من تحتي وصعقت أحشائي. لم أقوَ على سؤاله فوراً، حتى شهقت أنفاسي لمرات وتداركت أمري وجمعت قوتي وبصوت مبحوح سألته:

– ما الذي أتعبك؟

لا يجيد فن الكلام وأدب الحكايات ليقص لي ما يعانيه فهو صغير جداً. لا يقدر ترجمة همومه الكبيرة إلى كلمات كي يفهمني ما أتعبه. نظراته مستمرة في بيان حجم تعبه وضنكه وكل نظرة بألف كلام.

– ما الذي أتعبك؟ هل جئت من مكان بعيد؟

– لا خالي.. الدنيا أتعبتني.. أجمع العلب الفارغة من الصباح وحتى المساء ولا أقوى على شراء خبز لعائلتي بثمنه البخس. الحياة صعبة خالي كلش صعبة.

مددت يدي لأدفع له ما أستطيع من المال قد يشتري لنفسه لقمة يسد بها رمقه. لكنه رفض استلام أي مبلغ، أردف قائلاً بهدوء شديد:

– أشكرك خالي.. ما أريد فلوس.. أنا أريد الطعام وأختي تريد وأمي وأبي المقعد.. إلى متى نعيش على عون الخيرين؟ حتى كرامة ما ظلت عدنا..

وكأن أطرافي الأربعة قد شلت.. لا أستطيع النهوض لأسدل الستار على هذا الفصل من مسرح الحياة الذي لا يطيقه قلبي. تركته ومشيت ونسيت نفسي وكل تعبي وهانت عليّ معاناتي.

صوته كان منخفضاً وأنا أتحدث إليه، حتى كدت لا أسمعه بين أصوات محركات السيارات الفارهة للميسورين والأصوات العجيبة التي تصدرها سيارات السباق أمريكية الصنع التي يستقلها أبناء المسؤولين وأصحاب الذوات والفخامة. حيث كانت صحبتنا على طريق عام وبين زحام الضمائر الميتة.