Press "Enter" to skip to content

( الكيمياءُ الذَّرِيَّةُ، والتَمَوْضُع السياسي)

د طورهان المفتي

جريدة الزمان 2024-03-03

مقالات

تعنى دراسة الكيمياء الذرية بمواصفات الذرات والجزيئات الكيميائية، والتي تتألَّفُ منها المواد المختلفة الموجودة على الارض، والدخول في أدق تفاصيلها؛ وصولاً كما قلنا إلى الترتيب الذري.

تتألَّفُ كُلُّ ذرة من النواة،  وتدور حول النواة مجموعة من الإلكترونات ضمن مدارات معينة وفق حسابات فيزوكيمياوية دقيقة ، تكون اقرب الإلكترونات إلى النواة ( مركز الذرة ) اكثر إلكترون مرتبط بالنواة  بسبب ؛ بسبب كونه الأقل طاقة بين الإلكـــــــترونات جميعاً؛  مما يجعله يسبح قرب النواة (المركز) وكأنَّهُ يُأتَمَرُ بأوامرها ، فيما تكون الإلكترونات البعيدةُ عن (مركز الذرة) ذات طاقة اعلى و حرية حركة اكثر ، ولا تتاثر  كثيراً بها؛ بل وتمتلك أيضاً قابلية مغادرتها.

وفقاً لذلك يمكن تصور الذرة بالشكل الآتي :

هي عبارة عن وجود النواة في مركزها ( مركز الذرة)؛ فيما تتوزع الإلكترونات  حسب قوتها وطاقتها وقدرتها وفقاً للقُرب أو البعد عن المركز؛  ليكون الإلكترون الضعيف ذات الطاقة الأقل موجوداً قرب المركز، و الأقوى ابعد مسافة عنه .

الدستور العراقي والتوزيع الذري .

أقرَّ دستور الدائم  بأنَّ جمهورية العراق دولة متعددة المستويات الادارية بدءاً من العاصمة المركز مروراً بمحافظات غير منتظمة بإقليم وانتهاءً بإقليم كردستان وأقاليم اخرى قد تنشأ في مرحلةٍ ما .

بالتالي فإنَّ هيكل التنظيم الإداري في العراق يشبه تماماً منظومة الذرة من ناحية النواة والإلكترونات ، فالعاصمة الإتحادية تُمَثِّلُ نواة الذرة، فيما تُعَدُّ بغداد كمحافظة هي اقرب الإلكترونات للمركز وأقلها حركة وأكثرها انضباطاً مع النواة ، وتكون المحافظات غير المنتظمة في اقليم  ذات طاقة اعلى و ابعد مسافة عن المركز وأقلَّ تأثُّراً به مقارنةً ببغداد، ويأتِ الإقليم او الأقاليم كالالكترون الأبعد  والاكثر حركة من المركز بحكم مؤسساته وطبيعة تأليفه.

الوضع السياسي العراقي والتوزيع الذري .

يمكن تفصيل الوضع السياسي العراقي الحالي والتوزيع الذري  بمراحل زمنية عِدَّة وفقاً للآتي:-

المرحلة الاولى : استمرت هذه المرحلة منذ سنة 2003 إلى سنة 2014 .

حيث تمثلت هذه المرحلة بكون القوى السياسية الكردية هي ابعد القوى عن المركز  وقرارات حكومته ( النواة)، ولديهم قابلية حركة عظمى وذات طاقة انتقال كبرى بسبب طبيعة الاقليم  ( اكبر من الطاقة الحركية للكثير من الاقاليم في اي دولة اخرى )، وتكاد جَزْماً تكون  ابعد إلكترون عن نواة الذرَّة إذا ما اردنا التشبيه الوضع السياسي بالوضع الذري، فيما كانت القوى السُنيَّة لديها طاقة حركة اقل وحُريُّةٍ اكبر،  وبعيدة نسبياً عن المركز و قرارات حكومته، فيما كانت القوى الشيعية قريبة إلى النواة (المركز ) وملتزمة بقرارات حكومته ، اما بقية القوى من التركمان والمسيحين فقد كانوا الأقرب إلى المركز والأقل طاقة والأكثر إرتباطا بهِ لغرض المحافظة حقوقهم ( وليس مكتسباتهم ) وعلى سلوكهم العام وعلى ما لديهم من طاقة وحرية حركة .

المرحلة الثانية : استمرت من سنة 2014 إلى سنة 2017 .

حيث تمثلت هذه المرحلة باستمرار حرية الحركة والطاقة الكبرى للقوى الكردية و محاولة الخروج والإفلات من مدارات الذرة؛ لتكلل هذه الطاقة الكبرى في اجراء الإستفتاء حول مستقبل اقليم كردستان؛ فيما فقدت القوى السنية في هذه الفترة مجمل طاقتها  وحرية حركتها لتكون الأقرب إلى المركز وقراراته (النواة)؛ بسب ظهور قوى داعش الارهابية التي سيطرت على الجغرافية السنية بصورة عامة،  وانتزعت ما لديها من قوة ومن الطاقة الحركية ، وقد استمرت القوى الشيعية في قربها من النواة وتطبيقاً للقرارات الحكومية مع ظهور حرية حركة ووفرة في الطاقة ( بسبب تشكل القوى العسكرية المتعددة الانتماءات السياسية وصدور فتوى الجهاد الكفائي)؛ مما سيؤهلها إلى القفز إلى مراحل اخرى بعد سنوات من سنة 2017 ، أمّا التركمان والمسيحين فقد استمروا كأضعف إلكترون و اقل حركة وأكثر تشبثاً بالمركز وقرارات حكومته؛ لاسيَّما بعد هجمات داعش عليهم بصورة مكثفة.

المرحلة الثالثة : مرحلة سنة 2017 – إلى الآن.

في هذه المرحلة بدأت عملية تثبيط القوى الكردية المتمثلة بإدارة اقليم كردستان وامتصاص طاقتها وتقليل حرية حركتها؛  مما جعلها أقرب إلى المركز و أكثر تناغماً في قرارات حكومته ، وذلك بسبب التحركات السياسية للقوى المختلفة بالضد من تطلعات القوى  الكردية إضافة إلى الضغط الاقتصادي الممنهج على الإقليم نتيجة عدم وجود اتفاق واضح وصريح بين حكومتي الإقليم و المركز؛  لاسباب عديدة ظاهرة او باطنة ، اما القوى السنية فقد تحولت من قوى سياسية ذات مطالب ورؤى سياسية إلى قوى  ذات مطالب مجتمعية مما جعلها قوى ضعيفة جداً ، ورجعت إلى المدار الأقرب إلى النواة والمركز؛ لتتساوى هذه القوى مع التركمان والمسيحين من حيث قربهم للنواة وقرارات  المركز، فيما أصبحت القوى الشيعية تمتلك غالبية القوى الموحدة في (الذرة )وذات طاقة حركية عليا؛  مما سوف يجعلها هي المبتعدة عن النواة وعن قرارات المركز؛ لِما تمتلكه من أدوات قوية وطاقة حركة كبرى .

ماذا يحصلُ الآن ؟

ما يحصل الآن هو اختلال في زخم القوى؛ فالقوى السياسية الكردية بدت أقل طاقة واقل حرية حركة  مما كانت عليه؛ رغم وجود  ادارة خاصة بها متمثلة بإدارة اقليم كردستان مما خلقَ نوعاً من  التضاد السياسي و الاداري للقوى الكردية فيما بينهم وفيما بينهم وبين القوى السياسية الأخرى  .

امًا القوى السياسية السنية فقد تحولت  في مطالباتها إلى قوى ذات مطلب مجتمعي وفقدت طاقتها الكامنة في المطالب السياسية وحصلت تحركات  لخبو فكرة الرمزية لديها  ،لتدخل هذه القوى في تنافس داخلي عميق جداً وتنتج هذه المنافسة اختفاء لماهية المطالب السياسية والرؤى السياسية لها ولتبقى موثرة فقط في محافظاتها.

في حين نجد ان القوى السياسية الشيعية قد  أضحَتْ  قوى ذات طاقة عالية جدا وهيمنة واضحة على غالبية حيثيات  الدولة وتفصيلاتها مما سوف يجعلها مبتعدة عن المركز؛ لتدخل في جدال بيزنطي من حيث ان المركز متمثل اساساً فيها ومن خلال هذه القوى ، كما وان نفس هذه القوى وبسبب ضخامة طاقاتها العالية سوف تبتعد رويداً عن المركز ولاتقل هذه الإشكالية عن الاشكالية الكردية في التضاد بين السياسة والتموضع الإداري لهم ، اما التركمان فهم تقريباً قد اختفوا عن القرار السياسي والمشهد السياسي وخاصة في هذه المرحلة الحـــــــالية فيما حافظ المسيحيون على قربهم من المركز .

ما الحل  ؟

يتمثلُ الحل في ايجاد معادلة (سياسية-ادارية) تعيد القوى السياسية الكردية إلى مستوى الحركة الموجودة في أُطر ادارة الإقليم؛  كي لا تكون هناك ردة فعل قد تكون غير معروفة العواقب  باتجاه المركز نتيجة الضغوطات الكبيرة والتقييد؛ فالضغط الزائد قد يولد الانفجار . فيما يجب تأمين وضع التركمان في اقل تقدير من خلال إعادتهم إلى الواجهة السياسية وان كانت بشكلها الأضعف . فيما يقع على عاتق القوى السنية ضبط الإيقاع البيني لغرض النهوض بمشاريع سياسية تحقق غاية قاعدتهم الجماهيرية مضافاً إلى الهدوء السياسي نوعاً من الاستقرار.

اما القوى السياسية الشيعية ( المنقسمة جذرياً إلى قسمين ) فانها ان استمرت بهذه الجدلية المعقدة بينها وبين النواة والابتعاد عن قراراته(قرارات المركز ) فانها سوف تتشظى بصورة أكيدة لتنتج قوى مركزية وقوى مبتعدة عن المركز مع عدم وجود قدرة لادارة وضعية القوى المبتعدة،مشيرين ايضا  إلى قابلية هذه القوى في التحرك على الادارات القانونية ضمن رؤى سياسية وإدارية معينة ،كل هذه المقومات سوف يخلق اختناق كبير للدولة العراقية من حيث ان القوى الشيعية هي المسند الرئيسي للدولة وأساس استقرار البلاد، مما تجب على هذه القوى العمل على استمرار جسور ثقة بين اطرافها المختلفة وتجنب القفز إلى الأمام  بصورة تفاضلية وتدعيم جسور ثقة بين القوى الشيعية والمكونات الأخرى مما يفسح المجال لبلورة سياسية في البلاد بصورة عامة لتبقى هذه المكونات ضمن مداراتها الصحيحة حول النواة ومركز الذرة .

Be First to Comment

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *